في مواجهة خطة ترامب لإنهاء الحرب بين أوكرانيا و روسيا والتى وصفت بالمنحازة ، تقدّمت كل من بريطانيا وفرنسا وألمانيا بمقترح بديل ويقوم على تعزيز القدرات العسكرية الأوكرانية، وضمانات أمنية جماعية، ورفض أي اعتراف مبكر بسيطرة روسيا على أراضٍ أوكرانية، إضافة إلى اشتراط استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتعويض كييف بالكامل.
الخطة الأوروبية لا تأتي كمجرد ملاحظات على المبادرة الأميركية، بل كمشروع متكامل يهدف — وفق مسؤولين أوروبيين — لمنع فرض تسوية قد تُضعف أوكرانيا وتُهدد أمن القارة على المدى الطويل
رفع عدد القوات الأوكرانية إلى 800 ألف
أبرز نقاط الخطة الأوروبية يتمثل في رفع سقف الجيش الأوكراني إلى نحو 800 ألف جندي بدلاً من 600 ألف كما تقترح واشنطن. وترى أوروبا أن خفض العدد يعني تعريض كييف لفراغ أمني خطير بعد الحرب، في ظل احتمال تجدد التهديدات الروسية.
هذا التوجّه ينسجم مع الموقف الذي عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي شدد على استعداد أوروبا لتحمل مسؤولياتها الأمنية قائلاً:
إن القارة الأوروبية مستعدة لتقديم ضمانات أمنية حقيقية للأوكرانيين فور توقف الحرب، ولن تتردد في دعم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم بعد أي اتفاق سلام.
هذا التصريح يعكس قناعة أوروبية بأن تعزيز قدرات الجيش الأوكراني جزء أساسي من تثبيت الاستقرار بعد الحرب، وليس مجرد بند تقني داخل خطة سلام.
ضمانات أمنية شبيهة بالمادة 5 في الناتو
يشدد المقترح الأوروبي على ضرورة منح أوكرانيا ضمانات أمنية قوية تشبه مضمون المادة 5 في حلف الناتو، بحيث يُعتبر أي اعتداء على أوكرانيا اعتداءً على جميع الأطراف الضامنة. وترى أوروبا أن هذا الالتزام الجماعي ضروري لحماية استقرار القارة، وردع أي محاولة لإعادة الهجوم على الأراضي الأوكرانية.
وفي هذا الإطار، أوضح ماكرون أن هذه الضمانات ستُطبق فور توقف القتال وقال :
الإجراءات الأمنية لن تبقى مجرد تعهدات، بل ستُنفَّذ مباشرة بعد أن تتوقف الأعمال العسكرية، ما يعني أن أوكرانيا ستكون محمية ضمن إطار جماعي.
أما المستشار الألمانى فريدريك مرتز، فاعتبر أن أي ضمانات جديدة يجب أن تكون أكثر صرامة من السابقة، قائلاً:
التجارب الماضية أثبتت أن الالتزامات لم تكن كافية، ولذلك يجب أن تكون الضمانات المقبلة قوية وملزمة حتى لا تتكرر الأخطاء نفسها.
هذه التصريحات تعكس موقفاً أوروبياً أكثر تشدداً من المقاربة الأميركية التي تميل إلى حلول أسرع وأقل التزاماً على المدى الطويل.
رفض كامل لأي اعتراف مبكر بسيطرة روسيا على أراضٍ أوكرانية
رفض الاعتراف المسبق بأي سيطرة روسية على الأراضي الأوكرانية, هو ما تعتبره أوروبا خط أحمر لا يقبل المساومة, فالعواصم الأوروبية ترى أن القبول بالسيادة الروسية على أراضي أوكرانيا يعني الانتحار السياسي لمنظومة الأمن الأوروبية وإضفاء الشرعية على مبدأ تغيير الحدود بالقوة. وهو موقف عبّرت عنه أورسولا فون دير لاين بوضوح حين قالت:
«إن أي سلام يُقام فوق أرضية صيغت بالقوة لن يكون سلاماً، بل بذرة لصراع جديد»
في تذكير بأن أوروبا لن تسمح بتحويل الاحتلال إلى واقع سياسي دائم. وفي الاتجاه ذاته، كان رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر حادّاً في رفضه، وقال:
«إن فرض حدود جديدة على أوكرانيا قبل دخولها المفاوضات ليس تسوية، بل استسلاماً مغلفاً».
أما فريدريك مرتز فحذر من الخطوة وقال:
«إن اتفاقاً يُكرّسُ ما فُرض بالقوة لن يطوي صفحة الحرب بل سيكتب فصلاً جديداً منها»،
محذراً من سابقة خطيرة قد ترتد على دول أوروبا نفسها. و لهذا تصرّ أوروبا على أن تبدأ المفاوضات من “خط التماس الحالي” حصراً، باعتباره آخر خطوط الدفاع عن القانون الدولي وعن أمن القارة بأكملها.
استخدام الأصول الروسية لتعويض أوكرانيا
تتعامل أوروبا مع بند استخدام الأصول الروسية المجمّدة لتعويض أوكرانيا ليس كمجرد خطوة مالية، بل كإعلان مباشر عن تحميل موسكو فاتورة الحرب كاملة، وبصورة لا تحتمل الالتفاف أو التخفيف. و الأموال الروسية المجمدة هي ملك شرعي لأوكرانيا, وليست موضوعاً للتفاوض. وحسب العواصم الأوروبية يترجم هذا البند مفهوم العدالة. ولا يخفي بعض القادة الأوروبيين هذا الموقف, إذ صرح وزير الخارجية البولندي رادوسواف سيكورسكي وقال:
«إن الأمر بسيط: إما نستخدم أموال المعتدي، أو نستخدم أموالنا… ولا تسألوني أيهما أفضل.»
لكن هذا البند تحديداً يحمل في عمقه قنبلة سياسية موقوتة، لأنه يجبر موسكو — بصورة غير مباشرة — على الاعتراف بأنها الطرف المعتدي والمسؤول قانونياً ومالياً عن الدمار، وهو ما يعتبره الكرملين تهديداً لهيبة الدولة الروسية وخطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. وتزداد خطورة الأمر حين يُنظر إليه من زاوية أوسع، لأن مصادرة أصول دولة كبرى قد يدفع دولاً أخرى — حتى تلك التي لا تدعم روسيا — إلى التفكير ملياً في مخاطر الاحتفاظ بثرواتها داخل الغرب، ما يخلق توتراً دولياً يتجاوز حدود الحرب الأوكرانية نفسها.
وما يمنح هذا البند زخماً أكبر هو موقف ألمانيا، حيث أكد المستشار فريدريك مرتز أن أوروبا مستعدة للمضي حتى النهاية في هذا الاتجاه بقوله:
«إذا كان بالإمكان استخدام هذه الأموال على أساس قانوني واضح… فسنفعل ذلك بلا تردد»
وهو تصريح يوضح أن بعض العواصم الأوروبية لم تعد ترى في استخدام هذه الأصول مجرد خيار، بل ضرورة سياسية وقانونية.
تمسّك أوروبا بهذا البند يعني عملياً نقل المعركة من ساحات القتال إلى البنية المالية العالمية، ويحوّل المفاوضات المقبلة إلى اختبار قاسٍ لقدرة روسيا على قبول شروط تشبه العقوبات الدائمة. كما يفاقم التباين بين أوروبا وواشنطن؛ فالأولى تتعامل مع الأصول باعتبارها حقاً لأوكرانيا يجب انتزاعه فوراً، بينما تفضل الثانية مساراً أكثر براغماتية وأقل صداماً. وهكذا يتحول هذا البند — الذي يبدو في ظاهره مجرد آلية لتعويض دولة منكوبة — إلى فصل حاسم في الصراع الدولي، قادر على تعطيل التسوية بالكامل، وربما إعادة خلط الأوراق على مستوى التوازنات المالية والسياسية في العالم.
اختلاف جوهري بين الرؤية الأمريكية والأوروبية
ورغم تعليق بعض الآمال على لقاء جنيف اليوم وما قد يحمله من محاولات لكسر الجمود، فإنّ الطريق نحو اتفاق نهائي ما يزال طويلاً ومعقداً. فرغم تعدد اللقاءات بين الأميركيين والأوروبيين والأوكرانيين، يبدو الاتفاق النهائي بعيداً، نظراً لتعقيد المسائل المتعلقة بالحدود والسيادة والضمانات الأمنية. وتزداد حساسية هذا المسار لأن أوروبا ترفض أي تسوية تُفرض على كييف من الخارج، كما عبّر فريدريك مرتز بقوله:
«لا يمكن فرض اتفاق على أوكرانيا دون موافقتها الكاملة… فمصير أوروبا يبدأ من سيادتها.»
ويعكس هذا التصريح جوهر الموقف الأوروبي الذي يرى أن أي اتفاق لا ينطلق من احترام الإرادة الأوكرانية سيظل هشاً وعرضة للانهيار، ما يجعل التوصل إلى صيغة متوازنة أمراً بالغ الصعوبة في المرحلة المقبلة.

