في تطور مفاجئ، أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 25 نوفمبر 2025 موافقة بلاده على الخطوط العريضة لإطار السلام الأمريكي – وهي خطوة اعتبرها الكثيرون تحولًا ضروريًا في مواجهة واحدة من أكثر مراحل الحرب تعقيدًا. وجاء في بيان الرئيس
أن أوكرانيا مستعدة للمضي قدمًا في إطار الخطة الأمريكية ومناقشة القضايا الحساسة“ ،
و أثار البيان الاوكراني جدلاً واسعاً وتساؤلات حول ما إذا كان هذا التحول نتيجة لضغوط مباشرة من جانب إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب , أم أنه مناورة سياسية محسوبة أعادت خلط الأوراق ووضعت واشنطن وموسكو في موقف معقد . ومما زاد من المفاجأة أن زيلينسكي، الذي أقسم مرارًا وتكرارًا على عدم المساس بـ ”كرامة أوكرانيا“، حذر شعبه من أن البلاد قد تواجه قرارًا غير مسبوق، عندما قال إن أوكرانيا قد تضطر إلى ”الاختيار بين الكرامة وفقدان شريك مهم“، مما أثار سيلًا من الأسئلة: هل استسلمت كييف حقًا أم أنها دخلت في أخطر مرحلة من المناورات السياسية؟
موافقة محسوبة أم استجابة للضغوط , كيف تغيّر الموقف الأوكراني من الخطة؟
في البداية، قابلت أوكرانيا النسخة الأولى من الخطة برفضٍ قاطع، بعدما رأت فيها مساسًا مباشرًا بجوهر سيادتها، سواء من خلال القيود المقترحة على قدراتها العسكرية، أو عبر بنود وصياغات يمكن فهمها على أنها إقرار غير مباشر بالأمر الواقع. غير أن الموقف تبدّل لاحقًا مع قبول كييف النسخة المعدّلة من الخطة، بعد إدخال تعديلات وُصفت بالجوهرية، مع الإبقاء على عدد من الملفات الحسّاسة عالقة على طاولة النقاش، وفي مقدّمتها مستقبل المناطق الخاضعة للسيطرة الروسية، وهو ما يعكس تحوّلًا تكتيكيًا في إدارة الموقف دون أن يرقى إلى تغيير استراتيجي في الثوابت الأوكرانية.
هذا التحوّل لم يكن مجرد استجابة لضغوط خارجية، بل بدا جزءًا من مقاربة مدروسة هدفت إلى إخراج كييف من موقع “الطرف الرافض” إلى موقع “الطرف المرن”، مع نقل عبء التعطيل إلى الطرف الآخر، إذ تحمل الموافقة الأوكرانية على الإطار العام رسالة واضحة للمجتمع الدولي مفادها أن كييف منفتحة على الحلول، وأن أي تعثّر لاحق يجب أن يُقرأ بوصفه نتيجة لرفض الطرف المقابل لا لتصلّب في الموقف الأوكراني
واشنطن أمام اختبار صعب بعد موافقة كييف على الخطة
هنا قد تجد واشنطن نفسها أمام اختبار صعب بعد موافقة كييف على الخطة؛ فبعد أن كانت المبادرة الأميركية تُطرح بوصفها أداة للضغط على الطرفين معًا، تحوّلت اليوم إلى امتحان حقيقي لقدرة الولايات المتحدة على دفع موسكو نحو موقف واضح، بعدما قالت أوكرانيا “نعم” من حيث المبدأ. هذا التطور يضع الإدارة الأميركية أمام مسؤولية سياسية مباشرة، لإثبات أن مبادرتها ليست مجرد وسيلة ضغط على حليفها الأوكراني، بل أداة حقيقية لتغيير سلوك الطرف الروسي.
غير أن هذه المهمة تصطدم مباشرة بطبيعة الموقف في موسكو؛ فروسيا، بقيادة فلاديمير بوتين، تتعامل مع المسار السياسي بمنطق التعنّت المدروس وسياسة الأمر الواقع، ولا تنظر إلى المبادرات المطروحة كإطار تفاوضي مستقل، بل كامتداد لمعركة تحاول حسم عناصرها تدريجيًا على الأرض، عبر استمرار الضغط العسكري والسعي لتحقيق تقدم إضافي في الشرق والجنوب، بهدف توسيع السيطرة وفرض “واقع جديد” تتحول على أساسه أي مفاوضات لاحقة إلى نقاش حول خطوط تماس مختلفة. هذا المشهد يضيّق هامش المناورة أمام واشنطن، وقد يدفعها في المرحلة المقبلة إلى اتخاذ خطوات أكثر وضوحًا وحزمًا، وربما أقرب إلى مصلحة أوكرانيا، سواء عبر تشديد الضغوط على موسكو أو تعزيز دعم كييف سياسيًا وعسكريًا، تفاديًا لفشل مبادرتها وتحمل كلفته دوليًا.
موسكو و استراتيجية كسب الوقت
ومن هنا، يبدو التريّث الروسي في إعلان موقف رسمي من الخطة المعدّلة جزءًا من استراتيجية كسب الوقت وتحسين الموقع التفاوضي بدل الدخول في التزامات مبكرة قد تقيّد هامش الحركة الميدانية. غير أن هذا التريّث ذاته قد يضع موسكو أمام أزمة سياسية جديدة، إذ إن استمرار التأجيل قد يُظهرها أمام المجتمع الدولي بمظهر الطرف الرافض للحل، حتى وهي تحقق تقدمًا على الأرض.
هذا التناقض بين السلوك الدبلوماسي والمكاسب الميدانية قد يفرض على روسيا معادلة صعبة: إما المضي قدمًا في التقدّم العسكري وتحمل كلفة الظهور كمعطّل لمسار السلام، أو الانخراط الجاد في التفاوض بما قد يحدّ من هامش تحركها العسكري. وفي المقابل، تحاول كييف استثمار الدعم الأوروبي المتنامي والتحولات الأمنية داخل القارة لتعزيز موقعها السياسي، دون الانزلاق إلى صورة الطرف الذي يعرقل مساعي السلام، بل عبر إبقاء الكرة في الملعب الروسي أمام الرأي العام الدولي.
في المحصّلة، لا تبدو موافقة أوكرانيا تنازلًا مباشرًا بقدر ما تبدو إعادة تموضع سياسي تهدف إلى حماية الدعم الدولي، وتحميل الطرف الآخر مسؤولية أي فشل محتمل للمسار التفاوضي. وبين مناورة كييف، وتريّث واشنطن، وإصرار موسكو المستند إلى الوقائع الميدانية، يبقى المشهد مفتوحًا على أكثر من سيناريو…
فهل نحن أمام بداية مسار تفاوضي جدي، أم أمام مرحلة جديدة من إدارة الصراع تحت غطاء الدبلوماسية؟

